الرواية بين الشفوي والمكتوب- سحر الحكاية وأسرار السرد

المؤلف: عبده خال10.13.2025
الرواية بين الشفوي والمكتوب- سحر الحكاية وأسرار السرد

مع الازدهار الذي يشهده مهرجان الرواية في الجنادرية، تتجلى فرصة سانحة لتحليق السرد بعيداً عن الأطر التقليدية والأشكال النمطية المعتادة. بل إنني أؤمن إيماناً راسخاً بأن كل كلمة، مهما بدت عابرة، تحمل في طياتها القدرة على أن تتحول إلى رواية آسرة، سواء بين أنامل روائي بارع أو في ذهن قارئ نبيه وفطن. فالكلمة، سواء كانت مدونة بحبر أو منطوقة بشفاه، تمتلك طاقة متجددة لا تنضب في انتشارها وتوسعها، وبين عوالم المكتوب والشفوي تكمن قوة سردية هائلة وجبارة. لطالما كتبت بإسهاب عن انتمائي الوثيق للحكاية الشعبية، وأرى في مهرجان الدرعية للرواية فرصة ذهبية لاستعادة واستحضار ما سبق لي أن كتبته عن مدرستي الشفوية الأولى، تلك المدرسة التي كانت أولى محطاتي التعليمية، حيث كنت أجلس منحنياً أمام (حكاءة) بليغة ومفوهة، والتي كانت تبحر بنا في استجلاب الخيال الجامح وتقريبه من الواقع الملموس، بما يرسخ في أذهاننا صوراً حية وقصصاً لا تُنسى. ذلك الجلوس كان يستلزم الإصغاء التام والإنصات العميق لكل كلمة تنطق بها، وربما كانت هذه البداية المتواضعة هي نقطة انطلاقي نحو إدراك أثر الحكاية الساحر على الحضور. ومنذ ذلك الزمن الغابر، وأنا أحاول جاهداً الإمساك بذلك السر الخفي للحكاية.. سر ذلك الصوت الذي يعلق القلوب بالخيال، ويجعل الحضور ينصتون بكل جوارحهم.

هل للحكاية جن أو ملائكة يسكنونها، بحيث يتحول السامع إلى قطعة من النشوة الخالصة، تتدفق منه لذة عذبة كالعسل المصفى؟

إنه سؤال حائر، يقف عالقاً بين اللهات والشهقة، وربما قضيت ردحاً طويلاً من الزمن في غياهب الغياب، غارقاً في معضلة وجودية عويصة، ولا زلت معلقاً بها حتى هذه اللحظة.

في طفولتي الغضة تلك، لم أكن أرغب سوى في تتبع تسلسل الأحداث بشغف، وكأنها القناة (الفنية) التي تجري فيها مجريات الحياة، وصولاً إلى مصبها الأخير المحتوم.

وعندما بدأت رحلتي في التدوين (فتحت الخط)، شرعت في التتلمذ على فن الحكاية المكتوبة، وظللت أسرد القصص بشغف ومتعة غامرة في عالم المكتوب، إلا أن عالمي الشفوي والمكتوب تفصل بينهما مساحات شاسعة يسكنها الفراغ والخواء.

فالانتقال من عالم الشفوي العفوي إلى عالم المكتوب المقنن أحدث فوارق جوهرية هائلة، وأثر بشكل بالغ على الحكاية في معطياتها الدلالية، وحركيتها المتسارعة ووتيرتها المحمومة.

الحكاية الشعبية تمتلك تقنيات وأساليب سرد مختلفة تماماً عن تلك المستخدمة في الكتابة.. فالسرد الشعبي يتميز بالحرية والانطلاق، بينما المكتوب أسير القيود والقواعد.

وعلى المتلقي أن يكون واعياً ومدركاً للاختلافات الجوهرية الكامنة في سرد الحدث بين هاتين الصيغتين المتباينتين.

فالشفوي يثير شغف السمع ويستحوذ عليه، بينما المقروء يأسر البصر ويستأثر باهتمامه، وبين هاتين السرعتين المتفاوتتين تكمن المتعة المختلفة، كما هو الحال تماماً بين الرواية المكتوبة والفيلم السينمائي المقتبس منها أو المستوحى عنها.

في حقبة زمنية سابقة، نشطت الأندية الأدبية في الاحتفاء بالقصة القصيرة، وشهدت الأمسيات الأدبية المتنوعة ازدهاراً ملحوظاً، وفي كل أمسية قصصية كانت تتبدى الفروقات الشاسعة بين المسموع والمكتوب بشكل جلي وواضح.

وإن كانت تلك الأمسيات تلتزم في معظمها بالقصص المكتوبة، فإن المتمرس على سماع الحكايات الشفوية غالباً ما يضيق صدره بما يسمع؛ لأن القاص في هذه الحالة يشبه من يحمل بطيختين بيد واحدة، فهو تواق إلى إسماعك قصته، إلا أنه متورط في قيود المكتوب، وبالتالي فإن النجاح في هذه الحالة مرهون بقدرة القاص التمثيلية، بحيث يستعير جزءاً من أدوات السارد الشفوي المتمكن.

وأهم ما يميز السرد الشفوي من خصائص فريدة:

- الإعادة المستمرة للّزمات اللفظية، والتي تعمل كفواصل للانتقال بسلاسة من حدث إلى آخر.

- إدماج الحكاء وتوظيفه لكامل حواسه أثناء السرد، من حركة اليدين والعينين، وتعبيرات الجسد، وتلوين الصوت، وتمثيل حالة الحدث بكل تفاصيله، سواء تهويلاً أو خضوعاً.

- مشاركة المستمع في عملية الحكي، سواء بالإستدراك أو الإضافة، أو الاستفسار والاستيضاح عما غمض.

إن متعة الحكي تختلف باختلاف الزمان والمكان أثناء قراءة الحكاية المكتوبة، بينما الحكاية الشعبية اتخذت من الليل مسكناً لها ومقاماً، فمن النادر أن يجتمع الناس للاستماع إلى حكاية شعبية إلا في جنح الليل.

- نفسية الحكاء الشعبي تؤثر بشكل مباشر في السرد، سواء بالإيجاب أو السلب، وكذلك الحال بالنسبة لنفسية المستمعين، فأي منهما إن كان يعاني من ضيق أو كدر في داخله، فإن وتيرة السرد تتباطأ بشكل ملحوظ، كمؤشر على ضيق نفسية أحدهما.

- وفي الحكاية الشعبية، غالباً ما يتم إضافة أحداث جديدة، أو إلغاء أخرى قد تبدو غير ضرورية.

- كل سارد لحكاية شعبية يقوم بإضافة لمساته الخاصة وحذف ما يراه غير مناسب.. وقد تكون هذه أهم السمات المميزة للحكاية الشعبية، بينما القصة المكتوبة تزخر بجوانب أخرى مختلفة.

- بعد الانتهاء من كتابة الحكاية وتدوينها، يُمنع منعاً باتاً إجراء أي حذف أو إضافة عليها؛ إذ تصبح في حالة اكتمال وثبات.

- وكلما كان أسلوب الكتابة متقدماً ومعقداً، كلما صعب على القارئ التواصل الحقيقي والتفاعل الصادق مع الحدث.

- القصة المكتوبة لا تمنح السامع فرصة التغيير والتبديل، بل تمنحها بعداً إضافياً من وحي خياله الخاص.

- كما أن القصة المكتوبة تحاول التوفيق بين المكتوب والشفوي عند سردها من قبل القارئ، وهنا يحدث انتصار ساحق للشفوي على المكتوب... ونجد أن الذات تنهل من كلا العالمين كما يحلو لها، دون التقيد بالفوارق والحدود بين العمليتين.

إن صياغة الأحداث المكتوبة والشفوية تحتاج إلى مصفاة دقيقة لتنقية وتكرير ما تساقط هنا أو هناك من تفاصيل، فالحكاية في كلتا الحالتين قد فقدت شيئاً لا يستعيده الزمن، حتى لو كان لدى القارئ أو المستمع مخيلة فذة، فما تنتجه المخيلة في هذه الحالة يعتبر فائضاً ليس من صلب الحكاية وأصلها.

هل أجرؤ على القول بأننا حكايات ناقصة؟

وقبل ذلك، أين يكمن الإدراك الحقيقي في انتقالك من المكتوب إلى الشفوي إذا قمت بتدوين الحالتين؟

أزمة الوجودية لا تكمن في تركك حراً في التصرف، فالأزمة الإنسانية الحقيقية هي أنك إن كنت حراً بحثت عن قيد، وإن كنت مقيداً بحثت عن الانطلاق والتحرر.

الحياة أشبه بحكاية لم تكتمل فصولها بعد، بالرغم من مرور آلاف السنين، وستمضي متقلبة بين عوالم الشفوي والمكتوب إلى ما شاء الله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة